| 0 التعليقات ]



الحياة صعبة، تلك حقيقة عظيمة، بل إحدى أعظم الحقائق قاطبة.
هي حقيقة عظيمة لأننا حين نراها حقًا نتجاوزها. فحين نعلم فعلاً أن الحياة صعبة، ونفهم هذا جيدًا ونقبله، لا تعود الحياة صعبة، لأن تلك الحقيقة لن تؤرِّقنا كثيرًا بعد أن نسلِّم بها.
وغالبيتنا لا ترى، جيدًا، حقيقة أن الحياة صعبة، وبدلاً من ذلك تشكو دون توقف – بدرجات متفاوتة، بضجيج أو بصمت – من كثرة مشاكلها، وواجباتها، وهمومها وصعوباتها، وكأن الحياة كانت سهلة في الأساس، أو أنها يجب أن تكون سهلة. الغالبية، إذًا، تعبِّر عن اعتقادها، صراحةً أو بصمت، أن الصعوبات التي تواجه كلَّ فرد منها هي ضرب فريد من البلوى التي ما كان ينبغي لها أن تصيبه، وكأنها أصابته على الخصوص، هو (أو عائلته، أو قبيلته أو أمَّته أو عِرقه أو حتى نوعه البشري بأسره) دون الآخرين. أنا أعرف جيدًا هذا النوع من التذمر لأنني، كغيري، ساهمتُ بنصيبي منه.
الحياة سلسلة لا تنتهي من المشاكل، فهل نرغب بأن نتذمر منها أم أن نحلَّها؟ هل نرغب بأن نعلِّم أولادنا كيف يحلُّونها؟
الانضباط هو مجموعة الأدوات الرئيسية التي تلزمنا كي نحلَّ مشاكل الحياة، ولا نحن نستطيع حقًا حلَّ أية مشكلة دونه.
ببعض الانضباط يمكننا أن نحلَّ بعض المشاكل، وبانضباط تامٍّ نستطيع أن نحلَّ جميع المشاكل.
ما يجعل الحياة صعبة هو أنَّ المواجهة المستمرة للمشاكل، وحلها، عملية مؤلمة. المشاكل – حسب حجمها وطبيعتها – توقظ فينا الإحباط أو المعاناة أو الحزن أو الشعور بالوحدة أو الذنب أو الندم أو الغضب أو الخوف أو القلق أو الكرب أو اليأس؛ وتلك ليست مشاعر مريحة (على الإطلاق عادةً)، وهي مؤلمة مثلها مثل أيِّ ضرب من ضروب الألم الجسدي، وهي أحيانًا تعادل في إيلامها أعظم صنوفه شدةً.
في الحقيقة، نحن ندعوها "مشاكل" بسبب الألم أو الصراع الذي تحدثه فينا. ولأنَّ الحياة سلسلة لا تنتهي من المشاكل فهي صعبة على الدوام، ومليئة بالألم كما هي زاخرة بالمتعة.
إنَّ عملية مواجهة المشاكل وحلها هي في الواقع ما يهبُ الحياة مغزاها، فالمشاكل هي الحدُّ الذي يفصل بين النجاح والفشل، وهي تستدعي شجاعتنا وحكمتنا، ونحن لا ننمو روحيًا وعقليًا إلا بسببها. فحين نرغب بتعزيز نموِّنا الروحي كبشر، نتحدى قدرتنا على حلِّ المشاكل ونعزِّزها، تمامًا كما نفعل في المدرسة حين نصطنع لتلاميذنا وظائف ومعضلات كي يقوموا بحلِّها.
نحن، إذًا، نتعلَّم عبْر مواجهة مشاكلنا وحلها، يقول بنيامين فرانكلين: "الأمور التي تؤلم، تُعلِّم". من أجل هذا يتعلَّم العقلاء والحكماء ألا يهربوا من المشاكل، بل على العكس: أن يرحِّبوابها وبالألم الذي يرافقها.
ومعظمنا ليس حكيمًا إلى هذه الدرجة؛ فالخوف من الألم يدفعنا – جميعًا تقريبًا، بدرجات متفاوتة – إلى محاولة تجنُّب المشاكل؛ فنحن نماطل ونؤجل، آملين أن تذهب المشاكل بعيدًا من تلقاء نفسها، أو نتجاهل وننسى، متظاهرين أنه لا مشاكل ثمة، وبعضنا يتعاطى المخدِّر ليساعده على تجاهل مشكلاته، فبتخدير نفسه من الألم ينسى المشكلة التي سببت له ذلك الألم. إننا، إذًا، ندور حول المشاكل ونتجنبها بدلاً من مواجهتها مباشرة، ونحاول أن نهرب منها بدل المعاناة من خلالها.
هذا الميل إلى تجنب المشاكل والمعاناة العاطفية التي تكتنفها هو القاعدة الأساس لجميع الأمراض العقلية لدى البشر.
وبما أن غالبيتنا لديه ميل كالسابق بدرجة أو بأخرى، فنحن مرضى عقليون إلى هذه الدرجة أو تلك، ولا نتمتع بصحة عقلية تامة.
حتى أنَّ بعضنا يمضي بعيدًا في تجنب مشكلاته والمعاناة التي ترافقها، متجاوزًا كلَّ ما هو جيد ومحسوس كي يحاول العثور على سبيل سهل، مشيدًا أشدَّ الأوهام والخيالات إحكامًا ليعيش فيها، مع إقصاء تامٍّ للواقع في بعض الحالات. يقول كارل يونغ بكلمات بليغة بارعة الإيجاز: "العصاب هو دائمًا بديل عن المعاناة الشرعية". لكن هذا البديل، في المآل، يغدو أشدَّ إيلامًا من المعاناة الشرعية التي ابتُكر من أجل تجنُّبها؛ وهكذا يضحي العصاب ذاته المشكلة الكبرى، وحينذاك سيحاول الكثيرون تجنُّب هذه المشكلة وهذا الألم مجددًا، مشيِّدين طبقة فوق أخرى من العصاب.
ولحسن الحظ، يملك البعض شجاعة تدفعه إلى مواجهة عصابه، والشروع – بمساعدة العلاج النفسي عادةً – بتعلُّم فنِّ المعاناة الشرعية الناجمة عن التعامل الناضج مع المشكلات.
نحن أيضًا نتجنب النموَّ الذي يتطلَّبه منا حلُّ المشاكل، ولهذا يتوقف نمونا الروحي في حالات المرض العقلي المزمن، وما لم ننجح في العلاج والشفاء، تذوي أرواحنا وتذبل تدريجيًا.
من أجل كل ما سبق، دعونا نغرس في أذهاننا وأذهان أولادنا وسيلة تحقيق الصحة العقلية والروحية، وأعني بذلك: دعونا نعلِّم أنفسنا وأولادنا ضرورة المعاناة وأهميتها، والحاجة إلى مواجهة المشكلات مباشرة واختبار الألم الناجم عنها.
كنتُ قد ذكرتُ سابقًا أنَّ الانضباط هو المجموعة الأساسية من الأدوات التي نحتاج إليها لحلِّ مشكلات الحياة، وسيغدو جليًا أنَّ تلك الأدوات هي وسائل وأساليب للمعاناة نختبر عبْرَها ألم مشكلاتنا على نحو نعمل من خلاله على حلِّها بنجاح، وفي الطريق نتعلَّم منها وننمو.
حين نعلِّم أنفسنا وأولادنا الانضباط، نحن نتعلَّم – ونُعلِّمهم – كيف يعانون، وكيف يحققون النمو والتطور أيضًا.
ما هي هذه الأدوات، هذه الأساليب للمعاناة، هذه الطُرق لاختبار ألم المشكلات بشكل بنَّاء، مما دعوتُه آنفًا بالانضباط؟ ثمة أربع منها: تأجيل المكافأة، قبول المسؤولية، الإخلاص للحقيقة، والتوازن. تلك الأدوات، كما سيتضح لاحقًا، ليست معقدة، ولا يتطلب استخدامها تدريبًا خاصًا، بل على العكس، هي أدوات بسيطة، يمتلكها أغلب الأطفال عند بلوغهم سنَّ العاشرة، لكن الملوك والرؤساء ينسَون استخدامها أحيانًا. المشكلة لا تكمن في بساطة الأدوات أو تعقيدها، بل في إرادة استخدامها أحيانًا. إنها أدوات يواجَه عبرها الألم بدلاً من تجنُّبه، وحين يحاول أحدنا أن يتجنَّب المعاناة الشرعية فهو بهذا يتجنَّب استخدام هذه الأدوات. لذلك، وبعد تحليل كل أداة منها فيما بعد، سنختبر في الجزء اللاحق من الكتاب إرادة استخدامها: وهي الحبّ.

0 التعليقات

إرسال تعليق

الأطلال يقول لك : شكراً على إثرائك لهذه المدونة